صحيفة المنظار الليبية: مجلة جيل ورسالة
.... والى العجوز عثمان الذي لم يحتفل بعيد ميلاده الخامس والتسعين .. في المدن النائية والزحام والثلج يمتلىء قلبك شعراً .. يقفز مثل طائر نزق ويمتلىء شعراً نزقاً ويظل يؤلمك طوال الليل حتى تتمنى لو كان بوسعك، ان تجعله يكف عن الخفقان ، ثم تعصره بيدك ، وتطعمه تبغاً نتنا. وتترك ذكرياتك تسلط فيه اسنانها مثل كيس من القراد. وفيما يرفع الموتى رؤوسهم عبر تجاعيد صدرك ، وتشم الى رائحة الاصدقاء والازقة القديمة والخبز المحترق في الافران وجرادل القمامة ، وترى ماضيك يمشي حافياً على الثلج ، تدرك على الفور انك بدأت تحلم ، وانك تموت حاملاً فوق ظهرك كياً من القراد تدعوه ذكرياتك. وتحرق مزيداً من التبغ.و تبصق فوق الأرض ، وتغالط صاحب الحانة في الحساب لكي تفوز بكاس أضافية وتقرص جارتك في الاتوبيس ، وتشتم الحرب والبطالة وتتحدى احدى المارة لكي يتشاجر معك ولكن ذلك لا ينقذك من قلبك أغني من كيس القراد الذي تدعوه قلبك فأنت لا تملك فرصة للهرب في أي اتجاه . انت مجرد حمال للقراد .
وتتعلم البكاء .
وتتعلم الجلوس وحدك وتبادل الانخاب مع ظلك المضحك. وتفرط في السكر حتى يسقط ذلك مغشياً عليه ، ولكن ذلك أيضاً لا ينقذك من قلبك .
وفي احد الايام الميتة يلقيك الملل من النافذة، وتتدحرج عبر الشوارع وعربات الترام والمقاهي ذات الواجهات الملونة ، وتزور متحف المدينة على عادة السواح، وتخالف اشارات المرور ، وتلتقط صوراً تذكارية لاعمدة النور المضحكة، تجرك قدماك الى الحديقة العامة ويسترعي انتباهك عجوز وحيد يقتعد احد المقاعد المرمرية ويهز رأسه برتابة .
ذلك العجوز يستطيع ان ينقذك .
انه يملك تحت جلده المجعد حلا حقيقياً لكل مشكلة في العالم بما في ذلك مشكلتك . ويستطيع ان يشير لك باصبعه ويدلك على طريقك دون فرصة واحدة للخطأ .. ولكنك ملزم بأن تعرف لغته ، فالعجائز الذين يهزون رؤوسهم برتابة يتحدثون لغة خاصة على الدوام .
وتقول له : « انا مريض بوباء الملل .. مريض بالفقر والانفلونزا والمشي بلا هدف خلال النوم .. ثم تكتشف ان ذلك ليس مثيراً بالنسبة له ، فالمرء لا يصير عجوزاً الا من الملل والفقر والانفلونزا. وتنظر في عينيه العميقتين ، وتحس بالضآلة والعقم ، ولكنك تحاول مرة اخرى. وتقول له : انا مريض بالغربة .. اعني بالغربة والشعر والكلمات السوداء القاتلة التي تظل تقضم قلبي طوال الليل . أنا ميت اكثر منك ) .
وتعود تنظر في عينيه . وتكتشف ان العجائز اكثر غربة من سواهم ، وانهم سكان عالم آخر مليء بالشعر الى حافته .. الشعر الحقيقي المترامي الابعاد الذي يدعوه البقالون اليأس . وتتقلص اصابعك ، وتتمنى لو كان بوسعك ان تجد كلمة اخرى اقل ايذاء لمشاعره ، ثم تغمض عينيك وتقولها له منتظراً ان يسقط عند قدميك ويشرع في الشكوى .
ولكن العجائز الذين يهزون رؤوسهم برتابة يتصرفون دائماً بطريقة مخالفة. أنهم لا يسقطون عند قدمي ! احد ، ولا يشكون لاحد .. العجائز ينظرون في عينيك ويجعلونك تشعر بالضآلة والعقم .وتتقلص اصابعك حتى تصير مثل مخلب قرد .
وتضطر الى ان تعترف لنفسك بأنك لم تجد الجرأة في يوم من الايام لكي تتوقف عن الجري هرباً من اليأس .. لم يخطر ببالك قط ان تتعرف على ذلك الشيء .. لم تره ، لم تعشه لم تواجهه لحظة واحدة .. ولكنك اوغلت في الحرب منذ البداية اعتماداً على معلوماتك الخاطئة التي جمعتها عن طريق اذنيك .. واوغلت في الحرب واوغلت في الحرب حتى اصبح الجري وحده اهم اهداف رحلتك. ويضحك العجوز بجانبك ويقول لك مشيراً إلى قدميه المرتجفتين ان المرء يعجز عن الجري ذات يوم ، ويستبدل حذاءه الثقيل بمسك جلدي بالغ النعومة ويقتعد الكرسي المرمري في الحديقة العامة ويهز رأسه برتابة .
المرء لا يواصل الجري الى الأبد ، يقول لك العجوز :
فاذا لم يدهسه القطار ، ولم يطعنه احد السكارى بمطواة خلال هروبه المسعور ، يعود في نهاية المطاف لكي يبحث عن مكان خال في الحديقة العامة ويواجه سيده اليأس لأول مرة منذ ان سقط فوق ارض هذا العالم المغلق .
ثم يشرع في هز رأسه متابعاً سنوات الجري . سنوات الحرب في زحام المدن وعيون النساء والحانات والشجار والصراخ بملء صدره وصياغة الاشعار المضحكة والتقاط الصور التذكارية، ومطاردة السائحات وعاملات التليفون .
ويوالي هز رأسه برتابة ، ويرى ذلك العبث كله يتكوم بجانبه خالياً من الاثارة ، ويرثي له من مقعده المريح في الحديقة العامة ويتركه هناك عندما يعود متباطئاً لاداء صلاة المغرب .
يتركه وحده . يقول لك العجوز . ويعود يجر قدميه المرتجفتين لكي يقف امام الله ويعتذرعن ذلك العبث المحزن وفيما يدس وجهه في تراب المسجد ويركع على ركبتيه مختتماً رحلة الجري ، بحس بأن شيئاً ثقيلاً قد انزاح عن كاهله شيئاً ظل يحمله طوال حياته ويرزح تحته مثل بغل اخرق ثم وضعه الآن على التراب .
وعندما يرفع رأسه يعرف انه لم بعد حمالاً .. ولم تعد ذكرياته مجرد كيس من حشرات القراد .
المرء لا يواصل الجري الى الابد . يقول لك العجوز :حتى اذا دهسه القطار ، حتى اذا طعنه احد السكارى بمطواة ، لا ان يدرك في اللحظة الخاطفة التي تسبق - الموت انه كان في الاتجاه الخاطىء ويجري ويجري هرباً من وهم خاطىء،وانه يريد ان يتوقف .
كل ما في الامر ان بعض العدائين - لا تتاح لهم الفرصة لكي يجدوا طريقهم إلى الله الا عبر عجلات القطار . يقول لك العجوز .
وتنظر في عينيه العميقتين . وتتقلص اصابعك حتى تصير مثل مخلب قرد ، وتتمنى لو كان بوسعك ان تقول له انك مريض بوباء الملل او الفقر او المشي بلا هدف خلال النوم وتتمنى لو كان بوسعك ان تجعله يرى قلبك من الداخل. ثم تكتشف انه يراه وانه كان يملك واحداً مثله تركه بلا مبالاة على المقعد المرمري في الحديقة العامة . و تنحبس كلماتك في حلقك مثل حسك الشعير ، وتعتريك الحيرة فلا تجد شيئاً تفعله او تقوله لذلك العجوز سوى ان تهرب لانك ما زلت قادراً على الجري .وفيما تعبر مفترق الطرق حاملاً كيس القراد ، وفيما تزداد سرعتك و آلامك سيوقفك شرطي المرور ويحرر لك مخالفة، فلا تتجاوز السرعة المحدودة يا ايها العداء .ولا تعرض حياة باقي العدائين للخطر
(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)
نرحب بتعليقاتكم