الخفاش
ترى ماذا لو كتب هذه المرة تقريرا عن نفسه، يمكنه بخبرة السنوات التي مضت أن يبتكر موضوعا لن يجعل من الأمر مغامرة كبيرة، تحرّ، استدعاء وتحقيق، وربما توقيف مؤقت، ثم يكون بوسعه بعد ذلك أن يروي الواقعة كما يرويها الآن هذا الشخص الذي يحادثه، وسيبدأ بالطبع كما بدأ محدثه «فجأة جاءني رجل لا أعرفه وسألني ان كان اسمي فلانا وعندما أجبته نعم طلب مني أن أرافقه بعد أن أخبرني أنه يتبع تلك الجهة».
رغبته هذه المرة أن يكون هو الموضوع فقد كتب تقارير كثيرة عن أشخاص كثيرين، أقرباء، وغرباء، أصدقاء وأعداء.. لا يهمه ما يحدث لضحاياه ولا يهمه ان كان مايفعله قد طلب منه، أوبتطوع منه، كما لا يهم ان كان ما يكتبه حقيقة أو لا علاقة له بالحقيقة، بل أن وقائع كثيرة أوردها في تقاريره كانت من نتاج خياله.. يكتب وكأنه يستمني، وقد استهواه ذلك فصار يقدم الى رؤسائه تقارير خيالية عن أناس حقيقيين، ويشعر بالنشوة والراحة عندما يختار ضحاياه من الذين يعرفهم ويعرفونه، وهذا الشخص الذي يستمع اليه هو أحدهم، وقبله آخرون لايعرفون أنهم لم يكونوا في الواقع سوى بعض ضحاياه.. تريحه أكثر حيرتهم وهم يعيدون أمامه التساؤل باستغراب لماذا حدث لهم ذلك؟ و لا يعلمون ساعتها أنه هو من كان يحبك تلك التقاريرالكيدية.. لم تعد تكفية حالة الرضا والراحة هذه اذ طغت عليه فكرة أن يطور تقاريره بما يؤدي الى الحاق أذى اكبر بضحاياه، بعد أن بدأ يفتضح أمره ويلاحظ عزوف الكثيرين عن الاحتكاك به، الى الحد الذي يصح أن تطلق عليه صفة المنبود.
يعلم ذلك ساعة راودته الفكرة، وهاهو وحيدا وقد انتصف الليل أو يكاد، وهذا وقته، صحوه الحقيقي يبدأ حين ينام الآخرون.. من هنا يباشر طقسه المعتاد، يجلس إلى مكتب قديم في غرفة يفترض أن تكون مكانا للنوم.. ضوؤها خافت لكنه يرى ويميز بوضوح بينما يصعب عليه ذلك نهارا وفي ضوء طبيعي، ينعشه هذا السكون المجرد الا من نباح الكلاب وصراصيرالليل اذ تقترب أصواتها فيسمعها مجاورة ثم تبتعد وتنأى لتعود ثانية مع حركة الريح فيدب فيه الحماس وينكب على الورق.. سيكتب وان لم يجد مدخلا لكتابة تقرير عن نفسه فلن تنقصه الأسماء.. ليكن ذلك الموظف الذي لا يشعر بأي ود اتجاهه أو عن هذا الساكن الجديد الذي لم يعد يراه منذ أول تحية أو عن صاحب المقهى المقابل أو حتى سائق سيارة الأجرة ذاك، سيختار أحدهم ..يبدأ عادة بخربشة ممهدا للكتابة وبعد ثواني سيكون قد خط سطرين على الأقل، ولن يتوقف حتى يبدأ الليل يفقد سواده وسكونه.. حينها يطوي أوراقه بعناية وكأنها أوراق من البلور يخشى أن تسقط من يديه وتنكسر، ثم يضعها بعناية في درج المكتب قبل أن يذهب لينام، لكنه على غير العادة هذه الليلة فقد مرت الثواني وتلتها دقائق وهو لايزال في خربشته محوٌلا بياض الصفحة الى رسومات عشوائية طولية وعرضية في امكانه أن يراها ويفسرها كيفما يشاء، فهي أشكال مجردة تارة وأحيانا أحرف وأرقام متداخلة، وبعضها يأخذ بالصدفة شكل كائن ما فيحدد الخطوط بتركيزاكثر فتتضح المعالم ويبرز شكل الكائن واضحا، والشكل الذي أمامه الآن تداخل فيه التكوين بين هيكل لطائر أو حيوان، وعندما حاول تحديده بخطوط أغمق، صار على هيئة خفاش فاردا جناحين عريضين ينحشر بينهما رأس فأري بفم مفتوح، تأمل الشكل قليلا ورفع رأسه متجها بنظره نحو شباك الغرفة المطل على العتمة واضعا القلم في فمه كمن يضع سيجارة، ثم رفع الورقة مادا يده على مستوى رأسه يتأمل عن بعد صورة الخفاش فيها، وعندما هم بوضعها على المكتب من جديد لاح أمام عينيه انعكاس صورة وجهه على اللوح الزجاجي الذي يغطي سطح المكتب.
استوقفته الصورة فاخذ يتفحصها كأنه يرى وجهه للمرةالأولى، اقترب نحوها فاقترب انعكاس الصورة نحوه وهنا تراجع على الفور فالصورة التي انعكست أمامه لم تعد صورته، قرب وجهه مرة ة أخرى نحو صورته المنعكسة محركا أنفه كما تفعل الأرنب، فيحرك الوجه أنفه وتستحضر ذاكرته صور الساكن الجديد، وصاحب المقهى، وسائق سيارة الأجرة، وذاك الموظف ذاك الذي لا يشعر بأي ود اتجاهه، ولطالما اجتاحته رغبة لإيذائه، وهاهي لحظته الآن، أنت ستكون موضوعي، سأكتب التقرير، قالها في داخله وهو مازال ينظر الى صورة وجهه المنعكسة على الزجاج.
أعاد وضع الورق على سطح المكتب فاحتجب الوجه وعادت صورة الخفاش أمامه بينما تحرك خلف زجاج الشباك ضوء تدرج بهدوء نحو الوضوح فيما يظهر أن غيمة انزاحت ببطء لتفسح المجال بالبطء نفسه لنور القمر ثم للقمر وهو يواجهه تماما مضيئا مكتمل التفاصيل، ولحظة يراه كذلك يضغط على القلم بين أسنانه يعضه أولا ثم ينكب فجأة على الورق وكأنه ينقض على فريسة، ينحني أكثر فيكاد يلامس رأسه الورق، ويحركه بحدّة شمالا ويمينا متابعا حركة يده حتى ليبدو من فرط الحماس وكأنّه يكتب بأنيابه..
نرحب بتعليقاتكم