مكرونة اللجان الثورية
قصة قصيرة لسالم أبوظهير
لن أنسى ضحى ذلك اليوم، كنت راجعا من وردية عملي بالليل لغرفتنا في العمارة 6 بالقسم الداخلي، وصلت بوابة الدخول للجامعة، كانت مكتظة بعدد كبير من الشباب ، وهؤلاء رغم أنهم كانوا طلبة مثلنا ، لكنهم مختلفين قليلا عن غيرهم، وأغلبهم أما من الحرس الجامعي، أو يتبعون المخابرات أو أعضاء باللجان الثورية. وكنا أحياناً نسميهم بالكائنات الودودة
مكرونة اللجان الثورية |
الكائنات الودودة
هذه الكائنات الودودة كانوا لمن لا يعرفهم، وسيعرفهم لاحقاً ،كأنهم طلبة مثلنا ، يحملون مذكرات وكتباً مثلنا , وقد تجد في جيب الواحد منهم قلم bik بألوانه الأزرق والأحمر والأسود والأخضر ، والذي شاع استعماله في نصف الثمانينات كما نحمل ، و(مثلنا أيضا) غالبا مايكونون في عجلة من أمرهم، يسرعون الخطى لدخول المدرجات والوصول للمحاضرات في موعدها المحدد. ويرسبون أو ينجحون بتفوق مثلنا ، وقد يعيدون الفصل الدراسي كله.
وبإختصار هم (زيهم زينا) ، لكنهم ليسوا كذلك ، أنهم في الغالب يمكنك أن تميزهم ، فهم يشبهون بعضهم بعض ، إذا صادف وأن تعرفت على واحد منهم ، بالضرورة ستتعرف على سلسلة طويلة من طلبة مثله ، كأنهم شخص واحد نسخ لصق ، رغم أنهم ليسوا أخوة تؤام، لكنهم أحيانا ينتمون لنفس الزمان والمكان الذي عاشوا فيه طفولتهم ، ويعيشون بيننا الأن.
هم شباب في الغالب يسهل وصفهم للأخرين ، فهم أما مفتولي العضلات بشكل مبالغ فيه ، فتشعر أنهم يتغذون فقط على البروتينات والفيتامينات فقط ، وتخمن أنه رغم حظر دخول الموز، في ذلك الوقت للبلاد بقرار سيادي سياسي أصدره العقيد وأقرته المؤتمرات الشعبية الأساسية ، فانتشرت إشاعة لا صحة لها مفادها أن الموز يفتل العضلات ، وكل من يأكل الموز يكون شبيها بهؤلاء.
عبسلام الدرية
شباب البوابة طوال القامة مفتولي العضلات ، وفيهم طالب واحد قصير أعرفه جيداً ، فقد كان منهمكا في فرز أكداس يضعها بين فينة وأخرى فوق طاولته احد زملائه، اكداس اكداس من أوراق وبطاقات تعريف للداخلين والخارجين للجامعة، ينتظرون ان يسمح لهم بالدخول او الخروج بعد تسجيلهم في سجل وقوائم طويلة ، كنت اتمنى ان لايلمحني فيحييني ، لكنه يسكن معنا في نفس العمارة وفي نفس الدور وفي نفس الممر ايضا ، لكنني وبسبب نصائح ثمينة اتجنب ان تتوطد العلاقة بيننا .
عرفت عنه أنه يضرب يعور داخل الجامعة وخارجها ، وأن هؤلاء الطوال هم في الواقع أقصر منه جهدا ومعرفة بخبايا الأمن والأمان في الجامعة .
عبد السلام أو (عبسلام الدرية ) كما ينادونه أصحابه تحببا ، أفطح قصير شعره الكيرلي يلمع بشدة من كثر مايخضبه بزيت الزيتون وبكريمات اخرى كانت محظورة على غيره لكنها تصله من مالطا ، ومن سوريا ، ويتفاخر هو بذلك ولايبالي. وهو طالب قديم بقسم اللغة العربية بكلية التربية ، لكنه لم يتخرج منذ سنوات ، ويسكن في القسم الداخلي في عمارة 6 في غرفة فردية ، وغرفته الفردية في بداية الممر في الدور الرابع ، وكان يشاع ويتردد دائما ، أن مايعتقد أنه غرفة فردية، هي في الواقع جناح واسع فسيح وفخم.
صديقي عمران
ذات مرة صادف وأن كان صديقي عمران ، يسير في الممر ، وعندما أقترب من غرفة عبسلام ، وجد بابها مفتوح ربع فتحة ، ، وبدافع فضول متهور من عمران خفف من سرعة خطواته، ومد رقبته مسترقا النظر والسمع لما داخل الغرفة ، حتى ناداه عبسلام
- انت يا ... تعال خش
تسمر عمران مكانه فيما أوما عبسلام مشيرا بيده له بالدخول:
- تعال خيرك خش قعمز قعمز
هكذا بلهجة مريبة وبسبب كلمات قليلة فيها أربعة أفعال أمر، وجد عمران نفسه في وضع لايحسد عليه ، وفي غرفة لا تشبه غرفته ذات الستة اسرة، كل سرير لابد وان تمت صيانته من قبل . غرفة نافذة بعض زجاجها مكسور، وتم استبدال المكسور بلوحة مقعد عريضة بنية اللون مرسوم عليه جدول يوضح الواجبات اليومية لكل طالب من الطلاب الستة يتم تغييرها كل أسبوع.
جلس عمران مرتبكا ولا يشعر بالأمان ، وحاول عبسلام أن يكون شهما مع ضيفه المرتبك ، فأحسن ضيافته بطاسة شاهي خضراء وسبسي روثمان ، طمعا في مد جسور التعارف والثقة مع جيرانه أصحاب الغرفة السداسية، وعندما تيقن أنه فشل ودع ضيفه بجملة اي خدمة تفضلوا سلامات.
الغرفة الفردية
غادرعمران غرفة عبسلام الفردية، لغرفته السداسية ، وهو مسرعاً متوجسا خيفة من أن يلمحه أحد من جيرانه فيحسبه من الجماعة اياهم ، وهو بعيدا عنهم لايحبهم ولايحب التحدث عنهم او عليهم خوفا من أن يتسبب ذلك في حدوث مشاكل هو بكل تأكيد في غنى عنها .
ذكنا ستة طلبة ، تجمعنا غرفة واحدة نتقاسم الفرح والحزن والأكل والنوم والواجبات اليومية والهموم ، لكن لكل واحد منا خصوصياته ، أهم مافي الموضوع اتفاقنا جميعنا وبشكل ضمني أن نتجنب نهائيا الحديث في السياسة .
كنت مقربا من عمران أكثر من باقي الاربعة ، ويعرف الجميع اننا اصدقاء بما يكفي ، وذات ليلة مقمرة كنا نجتاز معا ساحة ملعب الرملة ، متوجهين لعمارتنا بعد أن تناولنا العشاء في مطعم الجامعة ، التفت عمران فجأة ، ووجدنا عبسلام خلفنا ، وبدا لنا كأنه جن ، ظهر من تحت الارض او هبط من السماء ، فلم نشعر بأنه خلفنا ، وبدأنا نخمن منذ متى وهو معنا ولم نحس به ، لم يتكلم ، ونحن لم نتوقف عن الضحك والقرمة والكلام …ثواني و قال عمران :
- اوو نسيت مفتاح الغرفة في المطعم، هيا ولي معاي، لم يحتاج الأمر تفسير، خاصة وأني تحسست المفتاح في جيبي للتأكد، لكنني فهمت وودعنا عبسلام.
رجعنا للمطعم ، وطول طريق العودة وعمران لم يتوقف عن الالتفات وهو مذعور ويسأل ويكرر في السؤال
- شنو دوينا ياراجل ؟
- على شنو كنا نحكوا ؟
- زعما حكينا ع السياسة ؟
- من امتا وهو ورانا ؟
وبين السؤال والسؤال ، لابد لعمران أن يبسمل و يحوقل ولا يتوقف عن تكرار ربك يستر ربنا يستر ياشينك حصله هالدرية وخلاص ياشينك حصلة ربك يستر . وحتى يبرر خوفه بل رعبه توقف عن الكلام واخد نفس عميق ، تم زفير كأنه شخير يود ان يتخلص مابداخله واستطرد يصف لي قال :
- تعرف امتا خشيت لغرفته الفردية ، واستدرك
- فردية شنو ياخوي هاذي جناح معلقة فيه صورة معمر ، فيها طاولة كبيرة ، كبيرة هلبه ، فوقها أعلامات خضر ، وأوراق خضر وكتابات خضر ، الدار كلها خضرا ياخوي . وفجأة سكت توقف عن الكلام كأنه اختنق ثم عاد للوصف فقال:
- لا كان تحت الطاولة صندوق أزرق كبير ، شكله معبي دخيرة ، وفوق الصندوق الازرق كلاىشن ياصاحبي والله كلاشن . بعد كلمة الكلاشن توقف عمران عن الكلام كأنه اختنق ثم عاد للوصف فقال:
- تعرف السرير ياصاحبي ، السرير الي في الدار سرير كبير نرقدوا فيه الستة ..! وقهقه بشماتة وعاد للوصف مسهباً :
- فوق السرير زوز بطاطين نمر وفوقه زوز وأربعة وسائد بيض انضاف بيض ، انضاف هلبه ياراجل، ناصعات البياض ياصاحبي وورة أخرى ضحكة عمران ممزوجة بشماته ، انظاف وبيض هلبه مش زي المخدة متعك وتابع يقول:
- ياراجل تشوف الدار صغيرة ، لكن واسعة وكبيرة ، فيها ثلاجه وفريز وتلفزيون قاريونس كبير ومكيف ياصاحبي ، وبساط وفوق البساط اللي فرشه سجادة يعني سجادة ياصاحبي بالعربية الفصحى شكلها من تركيا مانعرفش لكن اللي متاكد منه ان حق الفرشة ياصاحبي اغلى من سيارتك الهوندا المخززة
وختم عمران حديثه الطويل بنصيحة ، عرفت اعلاش نقولك اخطاك منه عبسلام الدرية ؟.
هذا الضحى وأنا راجع لغرفتي السداسية بالقسم الداخلي ، تذكرت نصيحة عمران، وفي كل مرة يرفع فيها عبسلام رأسه ، بعد أن يتوقف عن التسجيل ، لا أتردد أنا في تنكيس رأسي ودسه في درج السيارة متظاهراً بالبحث عن شيء حتى لا يراني ، كنت حريصاً جداً على الأخذ بنصيحة صديقي الصدوق عمران .
بعد منتصف الليل
استلمت بطاقة تعريفي الجامعية ، ودخلت واستغربت لماذا هذا الازدحام والجلبة غير العادية ، وانتبهت كيف أن الجامعة شبة خالية ، باستثناء عدد كبير من سيارات النجدة وشباب ورجال امن بملابس عسكرية. وزادت حيرتي وتطورت لخوف ، عندما لمحت وجود عدد كبير ، يشبهون من بالخارج ، في غرفة عبسلام الفردية ، التي يأتي منها أصوات ضوضاء وضجيج على غير العادة.
ولجت لغرفتي ، ولم أجد أحد من الزملاء ، ولأنني لم أنم طوال الليل ، أرتميت على سريري ،ونمت نوما عميقا حتى منتصف الليل .
بعد منتصف الليل بقليل اكتشفت انني لوحدي في الغرفة السداسية ، فخرجت منها للغرفة المجاورة لكني لم اجد احد ، واكتشفت اني الطالب الوحيد في الممر وربما في العمارة كلها ، لا أحد من الطلبة ، وتملكني خوف حقيقي ومبرر. توجهت الى الحمامات في نهاية الممر ، وعند عودتي لغرفتي سمعت صوت عبسلام الدرية يناديني بصوت عال ،تردد صداه في أجواء الممر
- تعال تعال
لما وصلت لم يحييني ولم يسلم علي لكنه سألني اسئلة متتالية متلاحقة عرفت لاحقا ماذا يقصد بها :
- خيرك قاعد ؟
- خيرك ما روحت؟
- شنو قاعد ادير اهني ؟
- ما سمعتش شن صار ؟
- وين كنت ؟
ولشدة ذهولي وارتباكي وكأنني في حلم اجبت على كل الاسئلة بكلمة واحدة :
- شنو؟
لكن عبسلام جذبني بقوة من يدي وادخلني للغرفة الفردية وهو يضحك موجها الكلام لجماعته :
- هذا دايخ مايندري علي شي ؟ وكعادته وبلهجة أمر قال :
- قعمز قعمز تعشى معانا
لم انتبه انني في غرفة عمليات حقيقية، اجهزة اللاسلكي ، وهواتف ارضية ، ومسدسات بلجيكية فوق الطاولة الكبيرة، وأحذية عسكرية ضجيج ، جهاز اللاسلكي ، سمعت صوتا مزعجا يسأل أحدهم عبره
- من فيه في العمارة ؟ وجاء الرد من صاحب عبسلام :
- مافيه حد العمارة ، العمارة فاضية بالكامل يأافندي..!!
كنت أرغب في أن أقول له اني أنا في العمارة ، لكن أحدهم طلب مني أن أنحي راسي قليلاً ليسكب المكرونة في الصفرة ، والواقع ماسكبه كان أكداس لحم وقليل من المكرونة ، وكنت جائعاً جداً فلم أكترث بما يدور حولي وأكلت اللحم والمكرونة وخرجت.
وقعت فريسة الخوف والشك والألم ،وتأكدت بما لا يدع مجاً للشك ، أن أمراً ما قد حدثت ، وخطب جلل قد وقع ، لكني لم أعرف ما هو ؟ فلا أحد في العمارة ألا أنا وعبسلام وجماعته، رغم أن صاحب عبسلام قال للافندي مافيها حد العمارة .. !!
المدرج الأخضر
لم أتمكن من العودة للنوم ، وقبل الفجر بقليل سمعت صوت أطلاق رصاص، وسمعت أيضا صفير سيارات النجدة ،واستيقظت قبل منتصف النهار ، قررت المغادرة وأنا أستقل سيارتي لمحت أحدهم يحاول ألأختباء خلف سيارة بجانبي، و سمعت يتحدت بصوت خافت في اللاسلكي ، نعم سمعته بوضوح يقول :- الهوندا تغادر.. الهوندا تغادر الآن !!
وقبل أن أصل لبوابة الخروج من الجامعة ، حاصرتني سيارة نجدة ولم أدرك ما حدث ، إلا بعد ساعات وأنا جالس على كرسي حديدي، وراسي مغطي بخرقة سوداء وضابط التحقيق يسألنى للمرة العاشرة:
- أعترف ياضال .. قول من معاك ..؟
- ليش احرقتوا المدرج الأخضر ياكلب ..؟
- جماعتك باعوك افطن لروحك..؟
- منو اللي خطط ؟ ومنو اللي نفذ ؟
- وين بايت البارح ؟ وين كنت الليلة اللي فاتت
وأنا نحلف ونتوسل ونكرر
- والله كنت في العمارة ياافندي
وكل ما أحاول أن أخبره أنني كنت في العمارة يصفعني بقوة ويصرخ في وجهي:
- أحنا مانلعبوش ياكلب ، أهو تقرير البلاغات ، يقول العمارة مافيها حد
- قول وين كنت البارح ؟
- في العمارة 6 ياأفندي ؟
- وين في العمارة 6؟ منو كان معاك ؟
- كنت في غرفة عبسلام يأفندي ؟ كنت نتعشى في مكرونة مع اللجان الثورية ياافندي ..أقسم بالله
هنا حك المحقق رأسه ، أطفأ سيجارته ، واتجه لمكتبه وسمعته من خلفي يقول:
- الو عبسلام ..الو قولي منو تعشى معاكم البارح ....
- لا ياراجل .. متأكد
أقفل المحقق سماعة الهاتف .. ألتفت فك قيدي وقال لي :
-نوض روح اقلب وجهك
نرحب بتعليقاتكم