الروائية عائشة إبراهيم تقرأ رواية جاييرا
رواية جاييرا- شيطان اللغة وجنون السرد
سطور الرواية الأولى
منذ السطور الأولى لروايته (جاييرا) يخطط الروائي الشاعر سراج الدين الورفلي، شكل المغامرة السردية التي يريد أن يضع فيها القارئ، ويقرر له مسبقاً تجربة من الركض المتواصل على مدى مائة وسبعين صفحة، في مضمار عجيب، الجميع فيه يلهث، الجميع يتناقر ويتصارع، فـ (جاييرا) بحسب العنوان هو المكان الذي تلتئم فيه مباريات مصارعة الديكة، وفي أحداث الرواية هو ساحة تدريب عسكري شاق، يُساق إليها البطل بأقدار عبثية، وفي دلالة أخرى هو وطن يتنازع أبناؤه في صراع السلطة والأطماع، لكن رأيي كقارئة أن فضاء الرواية هو مضمار آخر للركض المحموم، ركض القارئ وهو يلاحق شيطان اللغة وجنون السرد.
أحداث الرواية
تسرد أحداث الرواية بضمير المتكلم قصة شاب لم يجد عملاً بشهادته الجامعية فقرر أن يعتنق سلك التجنيد، انتسب إلى معسكر للحرس الثوري، كان يراها فرصةً لترويض نفسه من سرعة الغضب، أما أهله فعدّوا ذلك فرصةً للتخلص من الميوعة، ليكتشف أن: "هذه إحدى أغبىَ طـُرقي الفاشلة في تغيير نفسي" ص3.
فالمعسكر لم يكن إلا ساحة إرهاب وتعذيب تُراق فيه الكرامة الإنسانية، ويمارس فيه الرؤساء ساديّـتهم على الجنود، ينقضي اليوم في فنون التعذيب وتمارين الدحرجة وانسلاخ الجلد على الحصى والشوك والاسفلت، أما الأوقات التي يفترض أنها مخصصة للراحة فتصادرها بيئة من القذارة والعفونة والجوع والعطش والضجيج ولهيب الشمس والمؤامرات بين نزلاء المعسكر. "كان الضباط يستمتعون بتلويح هراواتهم وعصيهم من فوق رؤوسنا كأنهم يقودون قطيعاً من الأحصنة البرية الهائجة" ص10.
"تفاجأتُ برئيس العرفة يخرج رأسه الكبير ما بين قميصي وجسدي، كان ذلك أكبر شارب أراه في حياتي، مجموعة مسامير صدئة مدقوقة في وجه أشبه بباب متهالك.. فتح فمه، كان أعمق فوهة على الإطلاق، مخزن هائل من الأسنان المفقودة، ورائحة التبغ وبقايا الطعام المعتق منذ عقود.."ص11.
يحاول الجندي بمساعدة اثنين من أصدقائه، وبمفاوضة فاشلة إقناع شاويش بأن ينقله إلى وظيفة إدارية بالمعسكر تُجنّبه التعذيب الجسدي والدحرجة على الأسفلت والحصى، وخسر في تلك المفاوضة مبلغاً مالياً مُعتبراً، لكن الشاويش لم يبرّ بوعده وسرق النقود، فما كان من البطل وصديقيه إلا أن أتخموه ضرباً وتعذيباً وتركوه على حافة الموت، ليعيش ثلاثتهم ورطة مزدوجة وتبدأ سلسلة أخرى من المفاوضات للهروب من تهمة الشروع في القتل، وعلى امتداد السرد يستحضر البطل صورة الديك بمضمراتها السلبية، في الكوابيس وفي الواقع، لتمثل جزءاً سوداوياً من ذاكرته الطفولية، منذ أن نقره في رأسه فقام الجد بذبح الديك انتقاماً للحفيد، لكن الحفيد ظل يحمل مخاوفه وتهويماته وكوابيسه ومعاناته، فيما "الديك يتجول بصدره العالي ونظرته الحادة العدوانية، كأحد جنرالات الحرب القساة".
بنغازي في الرواية
تحتل بنغازي كفضاء مكاني مساحةً كبيرة من الرواية، بالتحولات الاجتماعية والسياسية، بغوغائية الاشتراكية العربية وهي تصادر أملاك الأغنياء وتوزعها على الكسالى، كما تحضر بنغازي في بُعدها الانثربولوجي، تفوح منها رائحة الحناء في الأعراس، وملح البحر والحكايات الساخرة والأساطير وطقوس العزاء، يتنامى الحضور المكاني للمدينة في الفصول الأخيرة فيتحول المعسكر إلى ساحة معركة، إلى جاييرا أخرى يتم فيها إطلاق النار وترتفع أصوات بنغازي لإسقاط النظام، بنغازي التي وصفها بأنها "أجمل امرأة مقتولة في العالم" تشهد حالة الهيجان العظيم، مقاذيف الجولاطينة، أبرياء يتساقطون، سيارات الإسعاف، خيم العزاء، الدخان الأسود يخرج من كل مكان، ثم رجلٌ يفكك المكيفات من المعسكر، يسرق ما استطاع حمله، ويحطم الباقي! وتنتهي الرواية بملحمة إنسانية يذهب ضحيتها صديق البطل، في تلك السانحة يفكك الراوي مقاربة (النيهوم) متسائلاً إن كان حقاً عبقرياً للحد الذي يجعله يكتب أشياء من الستينيات والسبعينيات كأنه معنا اليوم، ثم يتدارك قائلاً: "ليست عبقرية، بل نحن الذين لم نتغير منذ ذلك الزمن".
كل ذلك وهو يحافظ على نفس الإيقاع السردي المتسارع واللغة التي تتناسل بحيوية طاغية من جميع مفاصل النص.
الخاتمة
وختاماً: ربما كان من الطبيعي أن بعض الروايات تضعك في حالة من التأمل، والبحث في أسرار السلوك الإنساني، وأخرى تجعلك حزيناً أو فيلسوفاً أو شاعراً أو شاهداً على مرحلة ما، لكن رواية جاييرا تجعلك، إضافة إلى كل ما سبق، ماراثونياً، تحاول أن تسابق هذا التدفق السردي، واللغة التي هي أقرب إلى انهمار مطر استوائي، وصور مجازية مجنونة و منفلتة من عقالها، مدهشة حد اللهاث، إنه نص يجعلك تلهث، لأنك ببساطة داخل جاييرا!
نرحب بتعليقاتكم